فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب} قيل: المعنى هذا الكتاب.
و{ذلك} قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعًا للإشارة إلى غائب؛ كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جلّ وعزّ: {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم} [السجدة: 6]؛ ومنه قول خُفَاف بن نُدْبة:
أقول له والرّمحُ يأطِرُ مَتْنَه ** تأمّل خُفافا إنني أنا ذلكا

أي أنا هذا.
ف {ذلك} إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: ألم هذا الكتاب لا ريب فيه.
وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما؛ ومنه قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} [البقرة: 252] أي هذه؛ لكنها لما انقضت صارت كأنها بَعُدَت فقيل تلك.
وفي البخاريّ: وقال معمر ذلك الكتاب: هذا القرآن.
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} بيان ودلالة؛ كقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] هذا حكم الله.
قلت: وقد جاء هذا بمعنى {ذلك}؛ ومنه قوله عليه السلام في حديث أُمِّ حَرَام: «يركبون ثَبَج هذا البحر» أي ذلك البحر؛ والله أعلم.
وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب.
واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة؛ فقيل: {ذلك الكتاب} أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا رَيْب فيه؛ أي لا مبدِّل له.
وقال: ذلك الكتاب؛ أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل: «أن رحمتي سبقت غضبي» وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أنّ رحمتي تغلب غضبي» في رواية: «سبقت» وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيّه عليه السلام أن ينزل عليه كتابًا لا يمحوه الماء؛ فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمَار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب: وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظانَ» الحديث.
وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة.
وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيّه صلى الله عليه وسلم بمكة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفًا لإنجاز هذا الوعد من ربّه عزّ وجلّ؛ فلما أنزل عليه بالمدينة: {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة.
وقيل: إن {ذلك} إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل.
و{الم} اسم للقرآن؛ والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل؛ يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما.
وقيل: إن {ذلك الكتاب} إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما؛ والمعنى: ألم ذانك الكتابان أو مثل ذَيْنِك الكتابين؛ أي هذا القرآن جامع لما في ذَيْنِك الكتابين؛ فعبّر ب {ذلك} عن الاثنين بشاهد من القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] أي عَوان بين تَيْنك.
الفارض والبكر؛ وسيأتي.
وقيل: إن {ذلك} إشارة إلى اللَّوْح المحفوظ.
وقال الكسائي: {ذلك} إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعدُ.
وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابًا؛ فالإشارة إلى ذلك الوعد.
قال المبّرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.
وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: {الم} الحروف التي تحدّيْتُكم بالنظم منها.
والكتاب مصدر مِن كَتَب يَكْتُب إذا جمع؛ ومنه قيل: كَتِيبة؛ لاجتماعها.
وتكتَّبت الخيل صارت كتائب.
وكتبْتُ البغلةَ: إذا جمعتَ بين شُفْرَيْ رَحِمِها بحلْقة أو سَيْر؛ قال:
لا تأمَننَّ فَزارِيًّا حَلْلتَ به ** على قَلُوصك واكتبها بأسيار

والكُتْبة بضم الكاف: الخُرْزَةُ، والجمع كُتَبٌ.
والكَتْبُ: الخَرْز.
قال ذو الرُّمة:
وَفْرَاءَ غَرْفِيّةٍ أَثْأَى خَوارِزُها ** مُشَلْشِلٌ ضيّعتْه بينها الكُتَبُ

والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة؛ وسُمّي كتابًا وإن كان مكتوبًا؛ كما قال الشاعر:
تُؤمِّلُ رجْعةً منِّي وفيها ** كتابٌ مثلَ ما لصِق الغِرَاء

والكتاب: الفَرْض والحُكم والقَدَر؛ قال الجَعْدِيّ:
يا ابنة عمِّي كتاب الله أخرجني ** عنكم وهل أمنعنّ الله ما فعلا

.قال ابن عاشور:

{ذلك الكتاب}.
مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف {الم} [البقرة: 1] كما علمتَ مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر.
وقد جوز صاحب الكشاف علَى احتمال أن تكون حروف {ألم} مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن، أَن يكون اسمُ الإشارة مشارًا به إلى {الم} باعتباره حرفًا مقصودًا للتعجيز، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتابُ أي منها تراكيبه فما أَعجزَكم عن معارضته، فيكون {الم} جملة مستقلة مسوقة للتعريض.
واسم الإشارة مبتدأ و{الكتابُ} خبرًا.
وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لَدَيْهم يومئذٍ واسم الإشارة مبتدأ و{الكتاب} بدل وخبرُه ما بعده، فالإشارة إلى {الكتاب} النازِل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به، فيكون {الكتاب} على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كُتب بالفعل، ويكون قوله: {الكتاب} على هذا الوجه خبرًا عن اسم الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقَّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله: {الكتاب} حينئذٍ بدلًا أو بيانًا من {ذلك} والخبر هو {لا ريب فيه}.
ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد، قال الرضي: وضِع اسم الإشارة للحضور والقرببِ لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول: واللَّهِ وذلك قسم عظيم لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم. اهـ. أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر، وعكس ذلك في الإشارة للقول.
وابن مالك في التسهيل سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال: وقد يتعاقبان أي اسم القريب والبعيد مشارًا بهما إلى ماوَلياه أي من الكلام، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} [آل عمران: 58] ثم قال: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة.
وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثلَ الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضًا، ففي القرآن: {فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه} [القصص: 15] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالًا لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خُفاف بن نَدْبة:
أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه ** تأمل خُفَافًا إِنني أَنَا ذلك

وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في الحماسة:
متَى يأتِ هذَا الموتُ لا يلفِ حاجة ** لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها

فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة.
وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونًا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في {الم} [البقرة: 1] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم: {افتراه} [يونس: 38] وقولهم: {أساطير الأولين} [الأنعام: 25].
ولا يرد على هذا قوله: {وهذا كتاب أنزلناه} [الأنعام: 92] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه.
ولعل صاحب الكشاف بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ: {ذلك الكتاب} تنبيهًا على التعظيم أو الاعتبار، فللَّه در صاحب المفتاح إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة: أوْ أنْ يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا: {الم ذلك الكتاب} ذهابًا إلى بعده درجةً.
وقوله: {الكتاب} يجوز أن يكون بدلًا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة {لا ريب فيه} ويجوز أن يكون {الكتاب} خبرًا عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه ألم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوًا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال. اهـ.

.قال الفخر:

سؤال:
لقائل أن يقول: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة، الجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو {الم} وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر وهو السورة وهو مؤنث، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو {الم} لا الذي هو مؤنث وهو السورة. اهـ.

.فصل في مدلول لفظ {كتاب}:

قال الفخر:

.أسماء القرآن:

اعلم أن أسماء القرآن كثيرة:

.أحدها: الكتاب:

وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل: فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال: {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ} [ص: 29] والكتاب جاء في القرآن على وجوه:
أحدها: الفرض {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [النساء: 103].
وثانيها: الحجة والبرهان {فَأْتُواْ بكتابكم إِن كُنتُمْ صادقين} [الصافات: 157] أي برهانكم.
وثالثها: الأجل {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] أي أجل.
ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد عبده {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} [النور: 33] وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته، وسميت الكتيبة لاجتماعها، فسمي الكتاب كتابًا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق.
اشتقاق لفظ قرآن.